وطنية – ادى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة في مقر المجلس والقى خطبة الجمعة: “قال تعالى في كتابه المجيد: {إِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}، تتحدث هذه الآية المباركة عن واحدة من السنن التي تحكم التحولات الاجتماعية وتتحكم بها وهي الفسق الذي يعني التمرد على الارادة الإلهية وعصيانها بمخالفة الأوامر الالهية وإظهار الفساد مبيّنة ان حالة الترف الذي تعيشه المجتمعات، وهي هنا لا تتحدث عن حالات فردية تدفع بها الى السلوك غير السوي وتخرجها عن جادة الصواب والاتجاه نحو الاسراف في الملذات والاغراق في السعي نحو اشباع الغرائز، الامر الذي يفسد الفطرة الإلهية و وظيفتها وفي إراءة وكشف ما هو السليم من السقيم في السلوك الانساني، فالترف هو واحد من العوامل الاساسية الدافعة نحو الاستغراق في السير وفق ما تتطلبه الغرائز والشهوات، وأحد وسائل هذه الشهوات والغرائز في جر الانسان واغرائه نحو الإنحدار الاخلاقي والانحراف حتى في التفسير الذي يتحول الى فلسفة تبريرية، فيستخدم الفكر والفلسفة والأدب والتشريع والنظام كله الى خادم لهذه الشهوات والغرائز كلما أوغل فيها وأحس أنه استنفذها احتاج الى البحث عن اختراع اساليب جديدة فهي كالنار في الهشيم كلما زدتها وقوداً زادت اشتعالاً”.
أضاف: “فالآية الكريمة تكشف في الواقع عن العاقبة السيئة والمصير غير المحمود للبشرية التي تنحرف في هذا الاتجاه في البحث عن حياة الترف واللذة وتبغي أن تصل الى السعادة من هذا الطريق، فيما هي تتجه بذلك الى الانحدار والهلاك الذي يُعبَّر عن الخلفية له بلغة الايمان بحب الدنيا، وأنه سر السير الخاطئ للأفراد والمجتمعات، كما ورد عن رسول الله: “حب الدنيا رأس كل خطيئة فالتصور الخاطئ للحياة والنظرة السطحية لها يؤدي الى هذه النتائج الوخيمة، وأعني التصور الخاطئ والنظرة السطحية هو قصر النظر على الحياة المحسوسة والمحدودة وقطع صلتها بالحياة الأخرى، وهي النظرة المادية البحتة تحت تأثير الغريزة والشهوة الطاغية لتفلسفها وتبرّرها، ومن الجدير ذكره هنا ان الفلسفات المادية الحديثة لم تكن سوى اجترار لمقولات قديمة للاتجاه المادي الذي لم يكن وليد الحضارة المادية المعاصرة، وإنما هي تكرار لها بلغات معاصرة لكل مرحلة من مراحل التاريخ الانساني، وهو ما نلحظه في القران الكريم وهو يتحدث عن تجارب الانبياء السابقين مع اممهم ويتفق في الجملة مع ما تحكيه الكتب السماوية من التوراة والانجيل، ومما يؤسف له انه لم يؤخذ بالنتائج للتجارب الانسانية في المجال الاجتماعي للاستفادة منها في تطوير الحياة الانسانية كما أُستفيد منها في مجال التجارب في الحقول العلمية والدراسات الطبيعية، ففيما أدى الأخذ بهذه النتائج في هذا المجال الى تطوير الحياة المادية أُهملت دراسة التجارب الاجتماعية واقتصر الامر فيها على التطوير الصوري والشكلي دون الأخذ بالمضامين الحقيقية لها”.
تابع: “على عكس ما سلكه القرآن الكريم في هذا المجال حيث اتبع نهج الاستقراء التاريخي لتجارب الامم السابقة وابراز العبرة من السلوك المخالف لدعوة الأنبياء والرسالات الإلهية لتستفيد البشرية منها وتنأى بنفسها عن تكرار هذه التجارب وتتفادى هذه الأخطاء القاتلة، وتستنير بالتوجيه الإلهي لتعبر نحو السلام والاستقرار الداخليين، أعني السلام والاستقرار النفسيين المعبّر عن السعادة الحقيقية. وفي عرض القرآن الكريم ذكر نماذج متعددة من السلوك البشري في مراحل متعددة متقاربة ومتباعدة زمنياً المعاند لدعوة الأنبياء التي تمثّل أهم قواعد الإصلاح في حياة الأمم، وفصلت فيها أخطر عوامل الفساد التي أدت الى نتائج قاتلة التي اجملتها الآية التي نحن بصدد الحديث عنها، للتحذير من تكرار هذه الانحرافات التي ستؤدي حتماً الى نفس النتائج في سور متعددة من القرآن الكريم نذكر منها ما ورد في سورة الأعراف من قصص الأنبياء مع أقوامهم والتي عبّرت عن هذه الانحرافات بالفساد والإفساد وهي صورة أخرى عن التعبير بالفسوق كما ورد في هذه الآية. ففي قصة نوح مع قومه ذكرت أن عامل الفساد والذي حاول نوح أن يرشد قومه الى خطورته هو الفساد العقائدي، وكانت نتيجته إصرار قومه عليه وعدم الاستجابة لنوح (ع) { فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ}، فكان عامل الفساد العقائدي سبباً للهلاك العام بالطوفان، وهو ما حصل مع عاد قوم هود (فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} وهذا سبب آخر أدى الى الهلاك العام، ومع تمرد قوم صالح الذين بطروا النعمة فبنوا القصور ونشروا الفساد واستكبروا فكان الاستكبار عامل الفساد الذي أودى بهم {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} واما عامل الفساد الذي كان سبب الهلاك العام لقوم لوط فهو الفساد الأخلاقي واستمتاع الرجال بالرجال {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}. وأما قوم شعيب فكان سبب هلاكهم هو الظلم والتلاعب بالموازين والمكاييل ومنعهم سبل الخير والصلاح والسير في سلوك الانحراف {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}. والنتيجة {فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} ، فعاقبة الفساد هو الأخذ وهو الاهلاك يأتي فجأة دون حساب للقوى الطاغية والفاسدة ، فيما هم يشعرون بالنشوة والانتصار”.
وقال: “لقد أجتمعت عوامل الفساد وهذه كلها في الأمم المعاصرة في وقت تشعر فيه قوى الطغيان والفساد العالمي بالسيطرة الكاملة وتشعر انها هي الاله الذي بيده تحديد مصير هذا العالم وتنتشي به وتمارس القهر والظلم مطمئنة الى أن عوامل الفساد هذه والتي تستخدمها لفرض سيطرتها على العالم، هي العامل الأساسي لبقاء هذه السيطرة ودوامها، ولكن من منطلق التجارب الإنسانية بقراءة قرآنية ندرك انها ستؤتى من حيث تشعر بهذا الاطمئنان (فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون)، انها الحقيقة الإلهية ان دوام البقاء لن يكون باستخدام الفساد ونشره بين الأمم، وان بدا كذلك ولكنه لفترة قصيرة سرعان ما يدمر القائمين وهم في قمة الاعتزاز والشعور بالإطمئنان، لتخلص هذه الآيات بعد ذلك الى هذه الحقيقة {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} وتقرر ان عامل الدوام والاستمرار والاستقرار، إنما هو بالإيمان تعبيراً عن الإصلاح العقائدي و بالتقوى وهو الإصلاح بتطبيق العدالة والتزام موازينها وبالقيم الأخلاقية والالهية التي بها فقط تكون الحياة. لذلك أيها الاخوة، فإن الخطر الحقيقي الذي تواجهه مجتمعاتنا ليس ما يبدو فقط من الهيمنة الغربية المستندة الى القوة المادية بما تمتلكه من قوة اقتصادية وتقدم صناعي وتكنولوجي فحسب، بل من سلاح أخطر وهو إشاعة الفساد الأخلاقي والتلاعب بالمفاهيم وما تزرعه في أذهان الناشئة من أبنائنا الذي يبدو لأول وهلة انها عناوين براقة كموضوع الحريات الشخصية متذرّعة بما تعانيه شعوبنا من القهر والتخلّف لتجد الأرضية المناسبة للاستغلال وأخذها الى طريق خاطئ تماماً. وهو إفسادها وتخليها عن مبادئها وتفكيك منظومة القيم التي تنتمي اليها وتشكّل شبكة الأمان الاجتماعي لها ولوحدتها، وبالنتيجة فان المستهدف هو عامل قوتها الأهم الذي استند بقاؤها اليه رغم كل الحملات التي تعرضت لها والضعف والوهن الذي بدا لها في بعض المراحل انها في مرحلة الانحلال والزوال، ولكنها بفضل هذه العوامل والمنظومة الفكرية والأخلاقية والاجتماعية التي تمتلكها سرعان ما كانت تنهض من كبوتها وتستوعب الغزاة والمحتلين ليذوبوا فيها ويصبحوا جزءاً منها”.
أضاف: “أيها الاخوة، إن أخطر ما تتعرض له اليوم مجتمعاتنا العربية والإسلامية والوطنية هو خطر الفساد الأخلاقي الذي سرعان ما وعى الغرب حقيقة انه لن يستطيع إبقاء سيطرته على بلادنا وإخضاعها وانهائها حتى لا تعود قادرة على النهوض من جديد إلا بضرب مجموعة هذه القيم، ولذلك رأى أن الوسيلة الأهم التلاعب بالمفاهيم وتزييف القيم الأخلاقية التي تنتمي لها ونشر وسائل الفساد الأخلاقي في مجتمعاتنا من المخدرات الى ما يرفع بين الحين والآخر تحت شعار الحرية الفردية من إعطاء المجال والحرية للممارسات الشاذة لبعض المرضى واعطائها القوة القانونية عبر تشريعها في المجالس البرلمانية، ولذلك يجب الوقوف بقوة أمام هذه الدعوات وتوجيه الأنظار نحو خطورتها وممارسة كل الضغوط للحؤول دون جعلها ثقافة عامة يتقبّلها المجتمع، فهي مسؤولية الإعلامي والمفكر والعالم والواعظ والمرشد وكل عامل في الحقل التربوي والاجتماعي، وعلينا التنبّه الى ان معالجة هذه الاخطار ليس موسمياً وعند استشعارنا الخطر فقط كما يحصل الآن. إن الفساد السياسي الذي يُمارس اليوم في لبنان هو أحد نتائج الفساد الأخلاقي من الطبقة التي اخذت بقيم الغرب وثقافته وتغرّبها عن قيم وثقافة شعوبها وتاريخها العميق الذي لا تعرف عنه سوى الظاهر منه، وسوى فساد الأنظمة التي حكمت تاريخه وتأثرت به، ولا يمكن الخروج من هذا الفساد والولوج في الإصلاح الا بالعودة الى ثقافتها الأصيلة التي أنتجت أعظم العلماء والفلاسفة ووضعت أُسس التقدم العلمي المعاصر الذي استفاد الغرب منه دون ان يستفيد من منظومة القيم التي انتجته فأصبح وحشاً بلا روح. لكن أيها الاخوة هذا مسار طويل يجب سلوكه مع ما يحتاجه من نضال وبذل جهد، ولكن هذا لا يعفينا من القيام بما يمكن من اجل الوقوف على أقدامنا ومنع التدهور الحاصل من دعوة الأطراف السياسية الى ترك المناورات والولوج بسرعة الى تأليف حكومة إنقاذية لإيقاف التدهور الحاصل على كل صعيد، والبدء بمعالجات للمشكلات الاقتصادية، وتوفير الحد الأدنى من مقومات العيش الكريم لشعبنا الضحية، ضحية هذه السياسات الخاطئة بل القاتلة”.
وختم: “ليس هناك من عذر لأي قوة سياسية لتعطيل تأليف الحكومة بحجة أن الوقت سيكون قصيراً لتتحول الى حكومة تصريف أعمال بعد نهاية العهد”.