كتب رفيق غريزي:
“ها هي السلطة قد أخذت وجهاً رهيباً، والقوّة التي وضعت بين يديها أصبحت وسيلة لاقتراف المنكر، بدل خدمة الصالح العام. كيف لا أنفعل وأصرخ أمام مشهد كهذا!” كلام الفيلسوف الفرنسي برتان دي جوفنال العميق تجاه محاباة السلطة، يلخّص حال فرنسا في القرن الثامن عشر، وهي التي حملت لواء الثورة ضد الاستبداد والظلم. ويذكّرنا بالاستبداد والظلم، والعدالة المفقودة في لبنان في الوقت الراهن.
في مرفق عام للعدالة والقضاء، نسير في قاعة الخطى الضائعة ونمرّ بين أقبية قصر عدل بيروت، من مكتب في الطابق الأوّل، إلى آخر في الطابق الثاني، ومن مبنى قصر العدل إلى مبنى وزارة العدل، نتساءل كيف يُدار مرفق عام القضاء في لبنان. وفي طريقنا للبحث عن الأجوبة نسير بين مكتب الرئيس الأوّل لمحكمة الاستئناف إلى مكتب مجلس القضاء الأعلى وذهاباً وإياباً بين هذا الأخير وبين مكتب السيد وزير العدل.
نسير في قاعة الخطى الضائعة، فنسأل لماذا أطلق على هذه القاعة تسمية قاعة الخطى الضائعة؟ البعض يأمل ألا يكون الإسم على المسمى، ولكن العكس هو المطلوب، أن يجد الضال سبيله في هذه القاعة.
ولكن، يبدو أنه في قصر العدل في بيروت، تجري الرياح بما لا تشتهي السفن!
وعليه، وصعوداً إلى مكتب الرئيس الأوّل الاستئنافي من بعد إحالة القاضي السيد شربل أبو سمرا إلى التقاعد، يتجلى لنا كيف يدار هذا المرفق!
ويتجلّى الاستبداد واللاعدالة واللاقانون في ممارسات من يفترض بهم أن يرشدوا الضالين إلى الطريق القويم، عبر ممارسة هؤلاء الكيدية ومخالفة القانون فقط بهدف منع القضاة الأحرار، المستقلّين بأفكارهم وقراراتهم والذين يرفضون الانصياع إلى أوامر وإرادة السلطة وأهل السلطة.
فبعد إحالة القاضي السيد شربل أبو سمرا إلى التقاعد، أصدر الرئيس الأول الاستئنافي في بيروت بالانابة، القاضي حبيب رزق الله قراراً بتاريخ 25/9/2023 قضى بتكليف القاضي السيد وائل صادق، قاضي تحقيق أوّل في بيروت، مخالفاً بذلك المادتين 35 و36 من قانون تنظيم القضاء العدلي، حيث ورد بشكل واضح لا يحتمل الالتباس أنه يعتبر رئيساً للدائرة القضائية رئيس الغرفة الأعلى درجة، وعند تساوي الدرجة فالرئيس أو القاضي الأقدم عهداً في القضاء. وعند تساوي الأقدمية، فالأكبر سنّاً.
وبطبيعة الحال فإنّ هذه القواعد مستوجبة التطبيق على دوائر النيابة العامة ودوائر التحقيق عند شغور مركز قاضي التحقيق الأول أو النائب العام الاستئنافي.
وعليه، بناءً لما ذكرناه أعلاه، تقدم عدد من قضاة التحقيق في بيروت وهم: فؤاد مراد، بلال حلاوي، فريد عجيب، وروني شحادة -وهم من القضاة الأعلى درجة من القاضي وائل صادق- إلى الرئيس الأول الاستئنافي بالإنابة القاضي حبيب رزق الله، حيث تم إعلام الأخير بأنّ الموقعين على الكتاب سيمتنعون عن تنفيذ مضمون القرار المخالف للقانون، ويمتنعون عن تسجيل أي دعوى أو أي إحالة ترد إلى أقلامهم بواسطة قاضي التحقيق الأول المكلف على الشكل المذكور، إلى حين الرجوع عن القرار.
وبناءً على الكتاب المذكور، اعتذر القاضي وائل صادق عن قبول تكليفه كقاضي تحقيق أول في بيروت. وإبان هذا الاعتذار، كان يقتضي تكليف القاضي فؤاد مراد كقاضي تحقيق أول كونه الأعلى درجة سنداً للمادة 36 عدلي.
وعوضاً عن أن يعيّن الرئيس الأوّل الاستئنافي في بيروت بالإنابة القاضي حبيب رزق الله، القاضي فؤاد مراد قاضي تحقيق أول إنفاذاً لنص القانون الواضح والصريح والوارد في المادة 36 عدلي، عملاً بمبدأ عند وضوح النص لا يصح الإجتهاد، اجتهد الرئيس الأول الاستئنافي لمخالفة القانون وقام بتكليف القاضي بلال حلاوي قاضي تحقيق أول.
مع العلم أن القاضي بلال حلاوي كان بين القضاة الذين وقعوا على الكتاب الموجه إلى حضرة الرئيس الأول الاستئنافي في بيروت بالإنابة، القاضي حبيب رزق الله بشأن الرجوع عن تعيين القاضي وائل صادق كقاضي تحقيق أول، بسبب مخالفة المادتين 35 و36 من قانون تنظيم القضاء العدلي.
المحصلة، يكون رئيس الأول الاستئنافي، القاضي حبيب رزق الله قد خالف المادة 35/36 قضاء عدلي مرتين:
– إصدار تكليف مخالف للقانون عندما كلّف القاضي وائل صادق
– وتكليف القاضي بلال حلاوي بشكل متتالٍ بعد شغور المركز.
أمّا تذرّع الرئيس الأول الاستئنافي بتطبيق المادة 20 فهو مخالفة واضحة للقانون وسوء تفسير متعمّد بسوء نية، الهدف منه إقصاء القاضي فؤاد مراد المعروف بأخلاقه وعدم انصياعه لأحد وعدم القدرة على الضغط عليه بكافة الأشكال. فالمادة 20 قضاء عدلي تنص على أنه في حال تعذر على أحد القضاة التابعين لمحكمة استئناف واحدة، القيام بعمله لأي سبب، فللرئيس الأول لمحكمة الاستئناف أن يكلف قاضياً لتأمين أعمال القاضي المذكور.
وبالتالي، فإنّ المادة 20 تفترض لإعمالها حصول تعذّر، أي وجود مانع خارج عن الإرادة، مثلاً حالة المرض أو السفر، وهو الأمر غير المتوافر على الاطلاق.
وفي هذه الحالة يكون التكليف مؤقتاً وينتهي السبب الذي أدّى إلى التعذر.
أمّا المادة 36 فقد نصت بشكل خاص على حالة الشغور النهائي. وهو ما حصل عندما أحيل القاضي شربل أبو سمرا إلى التقاعد. وفي هذه الحالة، يكون التعيين حكماً بقوة القانون وليس إرادياً متروكاً لاستنسابية الرئيس الأوّل الاستئنافي.
ولا يمكن أن يفسّر قرار الرئيس الأوّل الاستئنافي بإجتهاده لمخالفة القانون سوى اختزاله للصلاحيات المعطاة للسيد وزير العدل ولمجلس القضاء الأعلى المنصوص عليها في المادة 20.
ونذكر أن الممارسة التي جرت عليها العادة، والتي باتت تعتبر كعرف قضائي، قد دأبت على تعيين الأعلى درجة عند التعذر النهائي عملاً بالنص الحرفي للمادة 36 أعلاه، ونذكر التالي منها:
حلول القاضي جورج رزق محل الرئيس غسان عويدات كونه الأعلى درجة.
حلول القاضي شربل أبو سمرا محل القاضي جورج رزق كونه الأعلى درجة.
حلول القاضي غسان معطي محل القاضي محمد بري عند تقاعده من منصبه كقاضي تحقيق أول في النبطية.
حلول القاضية أماني سلامة محل قاضي التحقيق الأوّل في البقاع عماد زين نتيجة استقالته (كونها الأعلى درجة).
حلول القاضي فادي عقيقي (كونه الأعلى درجة) محل مفوض الحكومة المستقل بيتر جرمانوس.
حلول القاضي فادي صوان (كونه أعلى درجة) محل قاضي التحقيق العسكري الأوّل رياض أبو غيدا.
حلول القاضي غسان عويدات محل النائب العام في جبل لبنان القاضي جوزيف خليل.
حلول القاضي رهيف رمضان، كونه أعلى درجة محل النائب العام في لبنان الجنوبي سميح الحاج بعد وفاة الأخير.
إذاً وفي كل هذه الأسبقيات، وإعمالاً لنص المادة 36 عدلي، تم حلول الأعلى درجة، فيما اختار الرئيس الأول الاستئنافي أن يشذ عن القاعدة وأن يجتهد لمخالفة القانون وأن يطبّق مادّة قانونية لا تنطبق من أجل استبعاد القاضي فؤاد مراد.
وبهذا يكون قد استجمع الرئيس الأول الاستئنافي سلطات وصلاحية لا تعود له، فتحقق الاستبداد في القضاء، وتحقق الاستبعاد في العدالة، على يد القاضي المذكور وعلى يد النظام الذي يمثله.
وما يثير الاستغراب هو أنه كيف يقبل القاضي بلال حلاوي على نفسه أن يتم تكليفه قاضي تحقيق أول وهو ليس الأعلى درجة، فيما هو نفسه اعترض على تكليف القاضي وائل صادق. أليس هذا دليلاً ساطعاً لتغليب مصلحة شخصيّة على تطبيق القانون؟ أليس هذا دليلاً ساطعاً على سهولة إخضاعه وانصياعه لمخالفة القوانين؟
وكيف سيرد القاضي حلاوي على هذه الازدواجية، أو كيف سيتعامل المتقاضون مع قاضٍ يوقع على التزام ويفعل عكسه؟
في الختام، وبعد أن استعرضنا هذا الاستبداد، وهذا التجاوز للقانون لا بد أن نستذكر ما قاله الفيلسوف جان لوك إنه حتى القضاة يتوجب عليهم أن يتقيدوا بالقوانين، وننقل حرفياً مقولة جان لوك: “Every mregistre must abide by the law”. وفي السياق أضاف، إنه حين ينتهي القانون يبدأ الاستبداد، إذا تم تجاوز القانون بشكل يضر بالآخرين، وإن مطلق شخص في السلطة يتجاوز السلطة التي يمنحها له القانون، ويستجمع القوّة التي لديه تحت إمرته، لتطويق ذلك الموضوع الذي لا يسمح به القانون، يتوقف عن كونه قاضياً.
فلو عاد جان لوك إلى زماننا هذا واطلع على تكليف الرئيس الأول الاستئنافي وعلى قبول القاضي حلاوي لهذا التكليف، لأيقن أن كلاهما قد توقفا عن كونهما قاضيين.