أخبار عاجلة

إرث النائب العام التمييزي غسان عويدات: من سيخلفه؟

 رفيق غريزي:

بديهي القول أنّ النيابة العامة التمييزية، وهي رأس النيابات العامة، وعلى رأسها النائب العام التمييزي، وظيفتها (وليس من وظائفها) ملاحقة مرتكبي الجرائم والمسهمين فيها، إلى تطبيق العقوبات والتدابير في حقهم. وحسب المادة السادسة من قانون أصول المحاكمات الجزائية، تتولى النيابة العامة مهام ممارسة دعوى الحق العام، ولا يجوز أن تتنازل عنها أو أن تصالح عليها. وضمن هذا الإطار، فانّ النائب العام التمييزي -الذي هو رأس النيابة العامة- له رمزية وحضور وهيبة ودور أساسي في الحفاظ على الاستقرار القضائي وتحقيق مصلحة المجتمع.

أن نتذكر عويدات
ضمن هذا السياق وهذه الصلاحيات، كيف سنتذكر النائب العام التمييزي غسان عويدات بعد مغادرته بتاريخ 21 شباط من العام 2024؟ كيف سنتذكره في ظل صراحة النص الذي أشار إلى دور النائب العام البديهي في ملاحقة الجرائم والمسهمين فيها؟ بل كيف سنتذكر النائب العام التمييزي في ظل صراحة النص الذي أشار إلى ممارسة الحق العام وعدم جواز التنازل عنها أو التصالح عليها؟

هل نحن بحاجة إلى أكثر من ملفين مصيريين في تاريخ لبنان المعاصر؟ هل نحن بحاجة لتظهير موقف عويدات من ملف انفجار المرفأ؟

سنتذكره في جملة وردت في قرار شهير صادر عنه بتاريخ 25 كانون الثاني 2023، القرار رقم 1/مجلس عدلي، والذي نص على ما يلي: “نحن غسان منيف عويدات النائب العام لدى محكمة التمييز، نقرر إطلاق سراح الموقوفين كافة في قضية انفجار مرفأ بيروت”.

نعم، ما زلنا في وهلة من أمرنا، في قضية تفجير مدينة بيروت، وإعادتنا إلى ركام، كما يرغب كل يوم كل مسؤول اسرائيلي، وكل عدو للبنان. لم يقف غسان عويدات (مع حقظ الألقاب) حد التقاعس، بل تجاوزه للتصالح والتسامح والإعفاء وصفات أخرى تمنعنا آدابنا المهنية من إطلاقها.

وسنتذكره في قضية الاستيلاء على أموال المودعين، وكيف قام الرئيس غسان عويدات بالتدخل لتجميد قرار النائب العام المالي القاضي علي ابراهيم، الذي قضى بوضع إشارة منع تصرف على أصول 20 مصرفاً لبنانياً، وإبلاغه إلى المديرية العامة للشؤون العقارية وأمانة السجل التجاري وهيئة إدارة السير والآليات وحاكمية مصرف لبنان وجمعية المصارف وهيئة الأسواق المالية، مع تعميم منع التصرف على أملاك رؤساء مجالس ادارة هذه المصارف.

وسنتذكره أيضاً في ما يسمى محضر الاجتماع الذي انعقد في مكتب حضرة النائب العام لدى محكمة التمييز القاضي غسان منيف عويدات، يوم الثلاثاء الواقع في 10 آذار 2020 الساعة الرابعة والنصف من بعد الظهر، بحضور رئيس جمعية المصارف السيد سليم صفير والسيدين نديم القصار ووليد روفايل من جمعية المصارف.

فنسأل، هل القانون أباح لرئيس النيابات العامة أن يجتمع بالمدعى عليهم، أو أن يستدعيهم؟ ألم ينص القانون صراحة على جوهر موجبات النيابة العامة التمييزية ووظيفتها بملاحقة المجرمين وبعدم جواز التصالح؟!

سنتذكر غسان عويدات (مع حفظ الألقاب) في الإحالات لأصحاب الرأي وتوقيفهم على ذمة التحقيق، بموجب الشكاوى المقامة من الجناة والمرتكبين ومختلسي المال العام!

إذاً، سنتذكر موقف غسان عويدات (مع حفظ الألقاب) بكل ما أضرّ وأذى اللبنانيين في الصميم، في أرواحهم وفي ذكرياتهم وفي أرزاقهم!

سنتذكره ليس كحامٍ للحق العام، بل كمدافعٍ عن المرتكبين!

الأعلى درجة
والسؤال الذي يبقى، من سيخلف غسان عويدات (مع حفظ الألقاب)؟

الناس يأملون ويصارعون من أجل الوصول إلى دولة قانون. وبعد المهزلة في تعيين قاضي تحقيق أول في بيروت، ومخالفة الأصول القانونية في استبعاد القاضي فؤاد مراد، يعود الجدل نفسه ولكن من نافذة النيابة العامة التمييزية.

المبدأ في من يخلف القاضي عويدات، يقتضي أن يكون القاضي الأعلى درجة في النيابة العامة التمييزية. وبطبيعة الحال فإنّ القاضية ندى دكروب هي الأعلى درجة، المعروفة بقوتها وصرامتها والتزامها القانون، على الرغم من كونها مرتبطة بقرابة مباشرة مع أحد الزعماء، فانها لا تنصاع إلا لضميرها.

ويبدو أنّ النائب العام المالي، نفسه الذي كان حاضراً وثبت حضوره في محضر الاجتماع مع جمعية المصارف والمشار إليه أعلاه، فانّه يطمح للحلول مكان القاضي غسان عويدات، بناء لأسانيد قانونية ترتقي إلى مرحلة البدع.

ولإثبات عدم أحقية النائب العام المالي، نشير إلى المادة 11 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي نصت على ما حرفيته:

يقوم بوظائف النيابة العامة لدى محكمة التمييز نائب عام يعاونه محامون عامون. يتولى مهام النيابة العامة المالية لدى النيابة العامة التمييزية نائب عام يعاونه محامون عامون.

وبالتالي، وحسب صراحة النص، فإنّ النيابة العامة المالية هي تابعة للنيابة العامة التمييزية، وقد نصت المادة 13 من قانون أصول المحاكمات الجزائية على أنه: يرأس النيابة العامة لدى محكمة التمييز نائب عام يعين بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل. يعاونه محامون عامون.

تشمل سلطة النائب العام لدى محكمة التمييز جميع قضاة النيابة العامة بمن فيهم مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية. وله أن يوجه إلى كل منهم تعليمات خطية أو شفهية في تسيير دعوى الحق العام.

فكيف يمكن أن يعين النائب العام المالي نائباً عاماً استئنافياً، وبالتالي يصبح رئيساً ومرؤوساً في الوقت عينه؟!

النائب العام التمييزي هو مراقب، وهو السلطة الأعلى للنيابة العامة المالية. بالتالي لا يمكن أن يعين النائب العام المالي رئيساً لنفسه.

لذا، فإنّ فرضية تعيين النائب العام المالي علي ابراهيم نائباً عاماً تمييزياً، مرفوضة قانوناً، ولكن في بلد العجائب لا نستغرب شيئاً!

انتداب على انتداب
وهنالك فرضية أخرى، هو ما يتم تداوله عن تعيين القاضي الدكتور جمال الحجار نائبا عاما تمييزيا لعدة اعتبارات. وعلى الرغم من السمعة الحميدة التي يتمتع بها الدكتور جمال الحجار، الا أنه ليس الأعلى درجة. وكونه سينتدب إلى النيابة العامة التمييزية، لا يمكن انتدابه مرة ثانية ليترأس النيابة العامة التمييزية. وإن كنا نريد دولة قانون ومؤسسات، فالبداية من القضاء، عبر رفض الاستنسابية ورفض منطق الارضاء، وتطبيق القانون بحذافيره.

وطالما أن الدائرة تشمل من يتمتع بالمعايير القانونية، فلا يجوز الإتيان بقاض من خارج الدائرة، وتنصيبه نائباً عاماً تمييزياً على الموجودين. بل أن تعيين النائب العام التمييزي خلفاً للنائب العام التمييزي عويدات، يجب أن يكون للأعلى درجة، فقضاة الدائرة هم الأولى بترؤس الدائرة.

فمثلاً، إذا تم الإتيان بقاض من أقسام المحاكم، وأن ينتدب في النيابة العامة التمييزية، ومن ثم مجدداً كنائب عام تمييزي. في هذه الحالة، الانتداب على انتداب غير جائز قانوناً.

وبالتالي، الإنصاف في القضاء من شأنه أن يؤدي إلى طمأنة المتقاضين. وإذا كان القضاء يرغب في تظهير صورة جديدة تنسي الناس الصور الراسخة في أذهانهم، فعلى القضاء نفسه أن يكون مثالاً في تطبيق القانون.

وعلى هذا الأساس، تكون القاضية ندى دكروب هي الأحق قانوناً بترؤس النيابة العامة التمييزية. وقد تم التداول مؤخراً أن الرئيسة ندى دكروب أبلغت رئيس مجلس النواب نبيه برّي قرارها رفض تعيينها خلفا لعويدات. وإنني أشك في ذلك صراحة. ولكن هذا الأمر لا يغير بالواقع شيئاً، فليكن القانون بتعيين الأعلى درجة، وإذا رفضت، فليعين من يليها الأعلى درجة من الدائرة ذاتها.

في الختام، مع الاختلاف في التشبيه، عندما أراد الرئيس المصري أنور السادات الاطاحة ببابا الأقباط البابا شنودة في العام 1981 في إطار ما سمي بـ”قرارات سبتمبر 1981″، لم يجد طريقة إلى ذلك إلا خلعه عن كرسي البابوية فقط، وليس عزله وتعيين كاهن آخر مكانه.

هذا كان في أيام السادات، رئيس جمهورية مصر العربية، الذي خلع البابا شنودة عن الكرسي البابوي، ولكن لم يتمكن من عزله وتعيين كاهن آخر مكانه!

أما في جمهورية القضاء اللبناني، فكل شيء مباح. يعين كاهن آخر، بخلاف القانون، والبابا شنودة القضائي يترك على الرف، على الهامش، ويخلع بالاستتار.